• 2020-06-05

الإدارة بالطباع والانطباعات

هاجر ناصر الفضالة

الكاتب / هاجر ناصر الفضالة

أظن أن فلانًا ليس لديه إمكانيات، أنا كمدير أحب أن أكون في وسط العمال دائمًا، المحاسب الجديد واضح أنه مميز، فلان شكله مندفع وغير مناسب للمؤسسة، الجودة نظام شكلي غير مفيد لنا، الانفتاح لا يتناسب مع قيَمنا وثوابتنا، أنا كمسؤول أتابع كل كبيرة وصغيرة.
هذه كلمات نسمعها دائمًا في إدارة المؤسسات والتجمعات والمنظمات، وهي بمثابة قذائف نارية تنطلق من طباع وانطباعات المدير؛ لإعلان الحرب على نظم الإدارة المبنية على قواعد منطقية وموضوعية.
بداية دعني أوضح معني الطباع والانطباع، فالطِباع هي نموذج سلوكي يميز الفرد عن غيره من الأفراد، أما الانطباع فهي صورة ذهنية عن شخص ما أو موضوع أو موقف معين، مبني علي الملاحظة الأولية، وقبل أي شيء نؤكد أننا لسنا ضد الطباع والانطباعات فهي مكونات نفسية خاصة بالإنسان مثبتة بشكل علمي.
إلا أننا نرفض توغل تلك الطباع والانطباعات في طريقة إدارة المؤسسات والتجمعات والمنظمات، فتصبح أداة للحُكم على الأشياء ومعيارًا لاختيار المواقف وطريقة لاتخاذ القرارات، وبالتالي تنحصر المؤسسية وتتوقف التنمية والتطوير على مدى قناعة الإدارة بالموضوع، وتُنفذ الفكرة بمجرد الارتياح لمُقَدمها أو لتوافقها مع طبيعة المدير، ويقترب أفراد من جهة الإدارة ويبتعد آخرون؛ ليس لشيء إلا للارتياح أو للتنافر الشخصي.
كما تنحصر رؤية المؤسسة في ثُقب ضيق مرتبط بالرؤية الشخصية للمدير ومدى ارتياحه لتلك الرؤية، بل وتنحصر غزارة الإبداع والابتكار في شخص الإدارة؛ فيقتصر الإبداع والابتكار على قطرات معدودة لا تَروي أرض المؤسسة فلا تُنبت إلا أشجار النمطية والجمود، ويسود جو الشخصنة بين العاملين ويُصبح إرضاء طباع المدير هو الهدف الأسمى، والتركيز على توصيل الانطباعات الحَسنة هو الإنجاز الأعظم، وتتوقف عجلة التنافسية ويتعطل الانجاز طالما يتعارض مع انطباعات وطباع جهة الإدارة.
العجيب أنك تجد عكس ما يحدث تمامًا عندما تتصفح تُراثنا المجيد (نأخذ موقفين فقط من بين المواقف الغزيرة) فهذا أبو بكر الصديق ذات الطابع الحسي والعاطفي صاحب القلب الرقيق، يتعامل مع المرتدين بكل شدة وقوة وعنف فيُجهِز عليهم ويمزقهم كل ممزق، وهذا عمر بن الخطاب الذي صرح لقاتل أخيه وقد دخل الإسلام أنه لا يحب أن يراه فسأله: "هل ينقص ذلك من حقي يا أمير المؤمنين؟ قال له "لا"، فرد الرجل عليه قائلًا: "ما لي وحُبك إنما يبكي على الحب النساء". فالانطباع السيء لسيدنا عمر رضي الله عنه عن قاتل أخيه لم يؤثر على معايير وقيم الحكم لدى خليفة رسول الله.
من المؤكد أن فلسفة علم الإدارة تركز على الموضوعية والمنطقية، والتضييق شيئًا فشيئًا على الاعتبارات الشخصية والميول الفردية فأوجدت التخطيط والهياكل التنظيمية لتحقق المؤسسية والابتعاد عن الفردية، وأوجدت معايير الأداء لتغلق الباب أمام الشخصنة عند الحكم على الأفراد والأعمال، وأوجدت طرق علمية لاتخاذ القرارات لتبتعد عن تأثير الطباع والانطباعات في تقرير مصير الأعمال والأفراد، وأوجدت نظم المعلومات لتضعها أمام متخذي القرار حتى لا يلجأ إلى التنبؤات المبنية على الانطباعات والعشوائيات، فقد وصل علم الإدارة بأن حدد لكل عملية من عمليات الإدارة ما تحتاجه من النظم والنماذج والمعايير والمؤشرات التي تقف حاجز منيع أمام توغل الشخصنة والانطباعية في الحكم على الأشياء وعلى الأفراد والمواقف.
من هنا نستطيع أن نقدم مؤسسة انتقلت بالفعل من الفردية إلى المؤسسية، ومن الشخصنة إلى النظم الموضوعية، ومن الولاء للأفراد إلى الولاء للرسالة والأهداف، ومن السيطرة الفردية إلى الحوكمة ذات الشمولية، ومن الإدارة بالتنبؤ إلى الإدارة بالمعلومة.
من هنا نقول سعادة المدير تَخلي عن طباعك وانطباعاتك واسمح لعلم الإدارة أن يأخذ فرصته في مؤسستك..

آخر المقالات

  • قاعدة (ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب) ونماذج من تطبيقاتها في الدّعوة والعمل الإسلامي

    2022-12-23

    هذه إحدى القواعد الفقهيّة الّتي يكثر تداولها في كتب الفقه ومصادره، ومفادها أنّ كلّ وسيلة لا يُتوصّل إلى فِعْل الواجب إلاّ بها فهي واجبة، لأنّ إيجاد الفعل المأمور به إذا توقّف على إيجاد شيء آخر كان هذا الشّيء واجباً، وكما أنّ وسيلة المحرّم محرّمة فكذل...

  • ريح يوسف ورجاء يعقوب

    2022-12-22

    سورة يوسف سماها الله أحسن القَصص لأنها تضمَّنت من الأحداث ما يظنه الواحد منا لأول وهلة أنها مصائب ومحِن، غير أن المتأمل في نتائجها يجد أنَّ رحمة الله الرحمن الرحيم تتجلى في ثنايا هذه المحن، لتحيلها مِنَحاً وعطايا. قصة بدأت برؤيا، تم تعبيرها من قِبَل...

  • فاسألوا أهل الذكر (10)

    2022-12-22

    🔹 السؤال: رجل أشكل عليه موضوع فسأل عدداً من الفقهاء المتخصصين في علوم الشريعة، وكل واحد أجابه بجواب مختلف، فهل يجوز له أن يأخذ من أقوالهم أيسرها وأخَفِّها عليه؟ الجواب : إذا كنت قادراً على النظر في أدلة مَن أفتاك والترجيح بينها تبَعاً لقوة الدلي...

  • حينما يسبق الأفراد القيادة

    2022-12-21

    القيادة بمثابة الرأس للجسد؛ فهي القاطرة التي تقود المؤسسة أو الكيان إلى النجاح والتقدم، والتاريخ مليء بقيادات غيَّرت وجه التاريخ، وأولها بالطبع القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت القيادة بهذه الأهمية وهذا التأثير فلابد لها من مجموعة خصائص وم...

  • سمكة المجداف

    2022-12-21

    تشير بعض المصادر العلمية إلى أن السمكة المسماة سمكة المجداف عاشت على مدى زمني طويل جداً! وهي ذات أنف عجيب ويُعتقَد ان لديها القدرة على التنبؤ بالزلازل! ولملايين السنين كان نهر يانغتسي بالصين (وهو ثالث أطول أنهار العالم بعد النيل والأمازون) مأوى لأصن...

  • بروتوكول وآداب تناول الطعام

    2022-12-20

    عندما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لتناول الطعام مرة وجد أن يد الصحابي الغلام (عمر بن أبي سلمة) رضي الله عنه تطيش في الإناء، فقال صلى الله عليه وسلم بكل هدوء ومن غير غضب أو زجْر بهدف تعليم الغلام وتعليم الأمة واحدة من أهم آداب تناول الطعام وخاصة ...