• 2021-10-16

التّعاهد على الطّاعات والقربات

الشيخ د.خالد السعد

الكاتب / الشيخ د.خالد السعد

لم يخل جيل من أجيال هذه الأمّة المحمّديّة المباركة – الّتي أكرمنا الله تعالى بالانتساب إليها – من أصحاب المواقف الإيمانيّة، ومن أهل الصّلاح والدّعوة إلى المعروف، والإخلاص والحماسة للدّين.
وفي هذا الجيل الّذي نحن فيه – حيث الفتن الّتي يرقّق بعضها بعضًا وحيث الهَرْج والمَرْج والتّنافس على حُطام الدّنيا الزّائل – نلمح رجالاً ونساءً وفتيانًا وفتيات، قد عقدوا العزم، وعاهدوا الله على أن يعيشوا للإسلام ويظلّوا مستمسكين به، لا يضرّهم قلّة السّالكين، ولا يغرّنّهم كثرة الهالكين، الّذين يروغون روَغان الثّعالب، يصبح أحدهم مؤمنًا ويمسي كافرًا أو منافقًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا أو منافقًا، يبيع دينه ومبادئه بلُعاعَة من الدّنيا.
وأقتصر هنا على صورة واحدة، قد تبدو هيّنة ولكنّها معبِّرة، ترينا أنّ هذا الجيل موصول بالإسلام، كلّما أحدث أعداؤه فتنة لصرفه عنه، ازداد تمسّكًا به وحرصًا عليه.
هناك مجموعات من الشّباب ومن الكهول أيضًا – ولا سيّما من روّاد المساجد – تعاهدوا فيما بينهم على المداومة على العبادة، والتّعاون على الخير، وتذكير بعضهم بعضا، كلّما نسي أحدهم أو تكاسل عن أداء واجب أو صلاة جماعة أو صيام نافلة أو صلة رحم أو نحو ذلك، ذكّروه ونصحوه، ولم يدَعُوه يضعف أو يسقط.
قد يكون هذا التّعاهد عن اتّفاق بينهم ورغبة في التّعاون على البرّ والتّقوى، وقد يكون سلوكًا عفويًّا يتعاملون به بدافع التّواصي بالصّبر على مشاقّ الطّاعات وما يصيبهم من الشّدائد كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران: 200. أو بدافع النّصيحة، وقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (الدّين النّصيحة ...) رواه مسلم: 55. أو بدافع حبّ الخير للآخرين وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: (لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه) رواه البخاريّ: 13 ومسلم: 45. أو بدافع تقوية المؤمنين وإعانتهم على إصلاح نفوسهم والثّبات على دينهم وقد قال عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أبو داود 4918: (المؤمن مرآة المؤمن) أي يستفيد منه معرفة عيوب نفسه كما يستفيد بالمرآة معرفة عيوب صورته الظّاهرة (والمؤمن أخو المؤمن يكفّ عليه ضَيْعته) أي يعينه في معيشته (ويحوطه من ورائه) أي يحفظه ويصونه ويدفع عنه.
وهذا كلّه من فوائد مصاحبة الأخيار والصّالحين، فيكسب الواحد منهم صلاحًا وسمعة طيّبة وخيرًا لدينه ودنياه وآخرته، وهو ما يحتاجه كلّ فرد من أفراد أمّتنا في هذا العصر، لأنّه لو عاش وحده فسوف تتقاذفه الأمواج ويبتلعه اليمّ ولن يستطيع أن يحتفظ بإيمانه، فلا بدّ أن يبحث له عن رفقاء صالحين يتقوّى بهم، وهذا ما عناه النبيّ عليه الصّلاة والسّلام بقوله في الحديث: (الرّجل على دين خليله، فلينظر أحدكم مَنْ يُخالِل) رواه التّرمذيّ: 2383 وحسّنه.
إنّ هذا التّعاهد على فعل الخير ونصرة الحقّ، هو من الخصال الطّيّبة الّتي تنشرح لها النّفوس، وقد كان هذا خلق سلف الأمّة، فقد كان بعضهم يعاهد بعضًا على أشياء كثيرة، كالثّبات في المعارك وعدم الفرار، كما فعل البراء في اليمامة وعكرمة في اليرموك. وكان التّلاميذ يعاهدون شيوخهم على المحافظة على عمل صالح يحبّه الله تعالى وعلى شُعبة من شُعب الإيمان، كقيام اللّيل، أو خدمة المساكين، أو قول الحقّ، أو المحافظة على سنّة من السّنن.
ومن قبل هؤلاء رأينا النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام في مناسبات عديدة يبايعه أصحابه من الرّجال والنّساء على النّصح لكلّ مسلم، وعلى ترك المحرَّمات، واجتناب الشّرك، والامتناع عن النّياحة، وعدم التّبرّج، وعدم السّرقة، وعدم الغشّ ... الخ.
ومن أعجب الأمثال والمواقف: أنّ نفرًا من الصّحابة بايعوا النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام على أن لا يسألوا النّاس شيئًا، يعني لا يطلبون منهم مساعدة. يقول الصّحابيّ عوف بن مالك الأشجعيّ: (فلقد رأيت بعض أولئك النّفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إيّاه) رواه مسلم: 1043.
وهكذا تتقارب أوصاف أجيال هذه الأمّة، وتتشابه أفعالهم، ويقتدي اللّاحق منهم بالسّابق، فيُحْكَم بالخير لأوّلهم وآخرهم، مثلما رُوي في الحديث: (أمّتي أمّة مباركة، لا يُدرى أوّلها خير أو آخرها) فيض القدير للمناوي: 1620. هذه إحدى مزاياها، فبسم الله مَجراها ومُرساها، وهو مغيثها ومؤيّدها، وكاشف غمّتها ومتمّ نورها.

آخر المقالات

  • قاعدة (ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب) ونماذج من تطبيقاتها في الدّعوة والعمل الإسلامي

    2022-12-23

    هذه إحدى القواعد الفقهيّة الّتي يكثر تداولها في كتب الفقه ومصادره، ومفادها أنّ كلّ وسيلة لا يُتوصّل إلى فِعْل الواجب إلاّ بها فهي واجبة، لأنّ إيجاد الفعل المأمور به إذا توقّف على إيجاد شيء آخر كان هذا الشّيء واجباً، وكما أنّ وسيلة المحرّم محرّمة فكذل...

  • ريح يوسف ورجاء يعقوب

    2022-12-22

    سورة يوسف سماها الله أحسن القَصص لأنها تضمَّنت من الأحداث ما يظنه الواحد منا لأول وهلة أنها مصائب ومحِن، غير أن المتأمل في نتائجها يجد أنَّ رحمة الله الرحمن الرحيم تتجلى في ثنايا هذه المحن، لتحيلها مِنَحاً وعطايا. قصة بدأت برؤيا، تم تعبيرها من قِبَل...

  • فاسألوا أهل الذكر (10)

    2022-12-22

    🔹 السؤال: رجل أشكل عليه موضوع فسأل عدداً من الفقهاء المتخصصين في علوم الشريعة، وكل واحد أجابه بجواب مختلف، فهل يجوز له أن يأخذ من أقوالهم أيسرها وأخَفِّها عليه؟ الجواب : إذا كنت قادراً على النظر في أدلة مَن أفتاك والترجيح بينها تبَعاً لقوة الدلي...

  • حينما يسبق الأفراد القيادة

    2022-12-21

    القيادة بمثابة الرأس للجسد؛ فهي القاطرة التي تقود المؤسسة أو الكيان إلى النجاح والتقدم، والتاريخ مليء بقيادات غيَّرت وجه التاريخ، وأولها بالطبع القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت القيادة بهذه الأهمية وهذا التأثير فلابد لها من مجموعة خصائص وم...

  • سمكة المجداف

    2022-12-21

    تشير بعض المصادر العلمية إلى أن السمكة المسماة سمكة المجداف عاشت على مدى زمني طويل جداً! وهي ذات أنف عجيب ويُعتقَد ان لديها القدرة على التنبؤ بالزلازل! ولملايين السنين كان نهر يانغتسي بالصين (وهو ثالث أطول أنهار العالم بعد النيل والأمازون) مأوى لأصن...

  • بروتوكول وآداب تناول الطعام

    2022-12-20

    عندما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لتناول الطعام مرة وجد أن يد الصحابي الغلام (عمر بن أبي سلمة) رضي الله عنه تطيش في الإناء، فقال صلى الله عليه وسلم بكل هدوء ومن غير غضب أو زجْر بهدف تعليم الغلام وتعليم الأمة واحدة من أهم آداب تناول الطعام وخاصة ...