• 2022-04-20

شذرات

علوٌّ في الحياة وفي الممات

من المواقف البطولية الخالدة موقف الصحابي الجليل عمرو بن الجموح رضي الله عنه، وهو أحد أصحاب الأعذار الذين أجاز الله لهم التَّخَلُّف عن القتال بسبب إعاقته لأنه أعرج، والله تعالى يقول "لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ"، لكنه لما منعه بَنوه من المشاركة في غزوة أُحُد، جاء يشكوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: يا رسول الله، إن بَنيَّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك، وإني لَأرجو أنْ أطأَ بعَرْجَتي هذه.. الجنة.
أرأيتم همة عالية كهذه الهمة؟!
إن الإعاقة لا تسمَّى إعاقة إلا إذا كانت عائقاً أمام صاحبها عن الترقِّي في مقامات العبودية لله رب العالمين، والارتقاء في درجات الجنة التي أُعِدَّت للمتقين، وتحرم صاحبها من عُلُو الهمة.
عُلُو الهمة.. ألاّ تقف النفس دون الله، وألا تطلب سوى رضاه عِوَضاَ وبدلاً.. أن تكون الأقدام راسخة في الأرض، ولكن القلب معلَّق في السماء لا يقف طموحه إلا عند الفردوس الأعلى من الجنة.
نحتاج إلى هذه الهمة العالية حين تهبّ علينا نفحات الله في أيام دهره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (افعلوا الخيرَ دهرَكم وتعرَّضوا لنفحاتِ رحمةِ اللهِ فإن للهِ نفحاتٍ من رحمتِه يصيبُ بها من يشاءُ من عبادِه).
الهمة العالية ليس لها سوى الجنة هدفاً ومطلباً، ولا ترضى بغير نعيمها رجاءً ومطمعاً. يقول الصحابي الجليل ربيعة بن كعب الأسلمي: كُنْتُ أبِيتُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فآتَيْتُهُ بوَضُوئِهِ وحَاجَتِهِ فَقالَ لِي: سَلْ. فَقُلتُ: أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ. قالَ: أوَ غيرَ ذلكَ. قُلتُ: هو ذَاكَ. قالَ: "فأعِنِّي علَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ. هذه هي أماني الكبار الذين أدركوا أن ما عند الله خير وأبقى، وأن مَن بَطَأَ به عمله لم يسرع به نسبه.
هذه الهمة العالية أطارت قلب عكاشة بن محصن حين سمع من النبي صلى الله عليه وسلم عن سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فقال على الفور: يا رسول الله، ادْعُ الله أنْ أكونَ منهم. قال (فأنت منهم).
إن نفس المؤمن تتوق دائماً إلى المعالي، ولهذا فإنه في سباق مع الزمن يعرف أن هذه الدنيا فانية، ويسمع قول الله تعالى "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ"، فيدرك أهمية السعي وأنَّ (من خاف أدلجَ ومَن أدلج بلغ المنزلَ ألَا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ ألَا إن سلعةَ اللهِ الجنةُ).
آيات كثيرة في كتاب الله الكريم يمر عليها صاحب الهمة العالية "سابقوا.." "وسارعوا.." "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ"، ويسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ وأَشرافَها، ويَكرَهُ سفْسافَها) فيدرك بذلك أن الأمر جدٌّ ليس بالهزل، فيسمو نحو المعالي ويطير قلبه إلى الجنة.
اللهم ارزقنا همة عالية نتقرب بها إليك، ونفوز بها لديك، يا سميع يا قريب.
والله من وراء القصد.

آخر أخبار شذرات

  • ريح يوسف ورجاء يعقوب

    2022-12-22

    سورة يوسف سماها الله أحسن القَصص لأنها تضمَّنت من الأحداث ما يظنه الواحد منا لأول وهلة أنها مصائب ومحِن، غير أن المتأمل في نتائجها يجد أنَّ رحمة الله الرحمن الرحيم تتجلى في ثنايا هذه المحن، لتحيلها مِنَحاً وعطايا. قصة بدأت برؤيا، تم تعبيرها من قِبَل...

  • عيسى بن محمد.. النَّبع الذي مايزال يتدفَّق

    2022-10-18

    لا أدري ما الذي دفعني في هذه اللحظة، وأوجَد الرغبة في نفسي أن أكتب عن عيسى بن محمد؟! هكذا فجأة.. وجدت نفسي أريد أن أكتب عنه.. لا أدري لماذا؟! هل لأنني فقدت المرجع الذي كلما أردنا الفصْل في بعض القضايا بحكمة وتعَقُّلٍ ذهبنا إليه؟! هل لأنني فقدت صاحب...

  • سِلْفي مع الكعبة

    2022-08-17

    جاء في الحديث (إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء) في إشارة إلى لفتة تربوية نبوية تربِّي المسلم على أهمية تجريد القصْد في العبادة من كل شيء وصرْفها لله وحده امتثالاً لقوله تعالى"وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّ...

  • الاستغفار.. ضمانٌ وأمان

    2022-07-16

    إنه طاعة من أعظم الطاعات، وقُربة من أنفع القُرُبات.. شُرِعت في كل وقت وحين.. لاتأخذ منك كثير جهد ولا وقت، لكنها من حيث أثرها تزن الجبال الراسيات. وهو عبادة تعقُب العبادات، كالصلوات وقيام الليل والحج وسائر العبادات، وتُختَم بها المجالس طلباً للصفح وا...

  • رحيل العظماء

    2022-06-18

    لعمرك ما الرزية فَقْدُ مالٍ ولا شاةٌ تموت ولا بعيرُ ولكن الرزيةَ فَقْدُ فَذّ يموت لموته خَلقٌ كثيرُ إن رحيل العظماء والعلماء والدعاة والمصلحين مصيبة شديدة الوقْع على الأمة كلها، لأن في ذهاب هؤلاء ذهاباً للعلم الذي يحملونه، وتوقُّفاً للدعوة التي ي...